سورة ق - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق: 50/ 1- 11].
افتتح اللّه السورة بحرف ق للتنبيه لأهمية ما بعده، وأكثر ما يأتي بعد الحروف الأبجدية أو حروف المعجم الإشارة للقرآن، لبيان الإعجاز القرآني وتحدي العرب للإتيان بمثله، ما دام متكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون.
ثم أقسم اللّه تعالى بالقرآن الممجّد المعظم الرفيع الكثير البركة والخير، أنك يا محمد جئتهم منذرا بالبعث، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده: وهو إثبات النبوة والمعاد.
هؤلاء كفار قريش تعجبوا لأن جاءهم رسول منهم ينذرهم بالبعث، فقالوا: هذا شيء يدعو للعجب: وهو أن ينذرهم رجل منهم، معروف بالأمانة والصدق والعدل.
وشبهة تعجبهم: أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض، وصرنا ترابا منثورا، وعظاما بالية؟ ذلك البعث رجوع مستبعد عقلا، لأنه في عقلهم المحدود والضعيف غير ممكن وغير مألوف عادة. وقوله: {بَلْ عَجِبُوا} معناه قد عجبوا والضمير عند جمهور المتأولين: هو لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم. أما المؤمنون فنظروا واهتدوا، وأما الكافرون فبقوا على عمايتهم.
فرد اللّه تعالى عليهم مبينا مدى قدرته على البعث وغيره، بقوله: لقد علمنا علما متيقنا ما تنقص، أي تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى، ولا يخفى علينا شيء من ذلك، وعندنا كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها، وهو اللوح المحفوظ. إنه تعالى يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقي منه، وأن ذلك في كتاب، وكذلك يعود في الحشر، معلوما ذلك كله. والحفيظ: الجامع الذي لم يفته شيء.
وسبب كفرهم وعنادهم: أن كفار قريش في الواقع كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الثابتة بالمعجزات، وكان تكذيبهم من غير ترو، ولا تدبر وتفكر، وإنما بمجرد تبليغهم به من قبل هذا الرسول، فهم في أمر مضطرب مختلط من دينهم، يقولون مرة عن القرآن والنبي: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة، فهم في قلق واضطراب، لا يدرون ماذا يفعلون.
ثم استدل اللّه تعالى على قدرته العظيمة على البعث وغيره بدليل حسي مشاهد لهم:
أفلم ينظر هؤلاء الكفار نظرا واضحا إلى هذه السماء المخلوقة العجيبة، فهي مرفوعة بلا عمد، ومزينة بالكواكب، ومبنية بناء راسخا، ليس فيها شقوق وصدوع وفتوق، ثم ألم ينظروا أيضا إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تضطرب بأهلها، وأنبتنا فيها من كل صنف نباتي ذي بهجة وجمال وحسن منظر.
فعلنا ذلك ليتبصّر العباد والمنيبون الراجعون إلى ربهم وطاعته، ويتفكروا في بدائع مخلوقاته، ويتذكروا هذه الأدلة، وخص اللّه تعالى بالذكر العبد المنيب وأفرده تشريفا، من حيث إن هؤلاء العباد هم المنتفعون بالتبصرة والذكرى.
وكيفية الإنبات من التراب التي يشبهها إعادة الخلق أو البعث والحشر: أن اللّه قال: لقد أنزلنا من السحاب المطر الكثير النفع، المنبت كل شيء من الأشجار في البساتين، ومن الحبوب التي تحصد كالقمح والشعير ونحوهما. وأنبتنا أيضا به النخيل الجميل الطويل الشاهق في السماء، والتي لها طلع (أول ما يخرج من ثمر النخيل)
منضّد متراكم بعضه فوق بعض، ليكون مصدر رزق وقوت للعباد، وأحيينا بالمطر كل أرض أو بلدة ميتة لا حراك فيها، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء.
وهذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث. والخروج: هو الخروج من القبور.
سيرة المكذبين الأول وتدوين أقوال الإنسان:
ذكّر اللّه تعالى بما صدر عن الأمم السابقة من تكذيب الأنبياء، مثل قول نوح وأصحاب الرّس (البئر العظيمة باليمامة) وثمود، وعاد، وفرعون، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة (الغيضة الكثيفة قوم شعيب) وقوم تبّع (الملك الحميري باليمن) وذكّر المولى عز وجل بأنه يعلم كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال ووساوس النفس، وأخبر بتسجيل الملكين عن اليمين وعن الشمال كل قول أو فعل للإنسان، كما تصوّر الآيات الآتية:


{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 50/ 12- 18].
هدّد اللّه كفار قريش بأن يعاقبهم بمثل ما عاقب به الأمم السابقة قبلهم، الذين كذّبوا الرسل، فعذبهم بالطوفان كقوم نوح عليه السّلام، أو بالغرق في البحر كفرعون وقومه، أو بريح شديد عاتية كعاد قوم هود عليه السّلام، أو بالريح الحصباء وخسف الأرض، كقوم لوط عليه السّلام، أو بالصيحة الواحدة من جبريل عليه السّلام: وهم ثمود قوم صالح عليه السّلام، وأهل مدين قوم شعيب، وأصحاب الرسّ باليمامة، وأصحاب الأيكة، قوم شعيب عليه السّلام، أو بخسف الأرض وهو قارون وأصحابه، أو بالإحراق بالنار وهم حمير قوم تبّع، وتبّع: اسم لكل من ملك حمير باليمن، مثل كسرى في الفرس، وقيصر في الروم.
كل هؤلاء كذبوا رسلهم الذين أرسلوا إليهم، فوجب عليهم الوعيد، وحقت عليهم كلمة العذاب على التكذيب.
وكان تبّع (أسعد أبو كرب) أحد التبابعة رجلا صالحا، صحب حبرين، فتعلّم منهما دين موسى عليه السّلام، فأنكر قومه عليه ذلك، فندبهم إلى محاجّة الحبرين، فوقعت بينهما محاجّة عظيمة، واتفقوا على أن يدخل جميعهم النار التي في القربان، فمن أكلته النار فهو المبطل، فدخلوا فاحترق قوم تبّع، وخرج الحبران تعرق جباههما، فهلك القوم المخالفون، وآمن سائر قوم تبّع بدين الحبرين. وذكر الطبري عن سهل بن سعد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا تلعنوا تبّعا فإنه كان قد أسلم».
والدليل على إمكان البعث: أفعجزنا بالخلق المبتدأ الأول (بدء الخلق) حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم مرة أخرى؟ بل هم في الواقع في شك وحيرة من خلق مبتدأ جديد أو مستأنف بين مصدق ومكذب، وهو بعث الأموات من القبور.
وكما أن قدرة اللّه على البعث وغيره تامة، علم اللّه شامل، وتالله لقد أوجدنا الإنسان (اسم جنس) ونعلم بجميع أموره، ونحن أقرب إليه من حبل وريده، فكيف يخفى علينا شيء مما في قلبه؟ إن اللّه تعالى يعلم كل ما يصدر عن الإنسان، حتى ما يجول في خاطره، وحتى حديث النفس، وإن كان لا عقاب على حديث النفس، لما رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «إن اللّه تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به».
وقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} عبارة عن قدرة اللّه تعالى على العبد، وكون العبد في قبضة القدرة والعلم، قد أحيط به. والآية حجة على منكري البعث والجزاء، واللّه تعالى وكل بكل إنسان ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله، إحقاقا للحق وإقامة العدل، وإلزاما للحجة.
واللّه أقرب شيء للإنسان حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به، فيأخذان ذلك ويثبّتانه، عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، والقعيد: من يقعد معك، فملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئات.
ويحتمل أن يكون العامل في قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى} فعلا مضمرا تقديره: اذكر إذ يتلقى. والمتلقيان: الملكان الموكلان بكل إنسان.
والقرب المراد في الآية: بالقدرة والملك. ويكون هناك إخبارات متوالية: الإخبار بعلم ما في نفس الإنسان، والإخبار بتدوين الملكين ما يصدر عن الإنسان، ثم خبر مجيء سكرة الموت، والنفخ في الصور، ومجيء كل نفس معها السائق والشهيد (أي ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه).
قال الحسن البصري: الحفظة (من الملائكة) أربعة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل، ويؤيد ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي، فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون».
ويروى أن ملك اليمين الذي يكتب الحسنات أمير على ملك الشمال، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر: تثبّت لعله يتوب.
سكرة الموت وأحوال العذاب الأخروي:
الانتقال عن عالم الدنيا يكتنفه مصاعب وأهوال ومخاطر كثيرة، أولها سكرات الموت: وهي ما يعتري الإنسان عند نزعه، والناس فيها مختلفة أحوالهم، لكن لكل واحد سكرة، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول- فيما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن عائشة رضي اللّه عنها: «لا إله إلا اللّه، إن للموت سكرات».
ثم يعقب ذلك أهوال، منها: نفخ الصور، ومجيء كل نفس معها سائق يسوقها إلى المحشر وآخر يشهد عليها، وعند الوقوف بين يدي الرحمن للحساب ومعاينة الحقائق يكشف الغطاء عن الإنسان، فيرى ببصيرته أو بصر عينه ما غفل عنه في الدنيا، ويقوم الحوار بين الكافر وقرينه الشيطان يوم القيامة، ويكون القرار الحاسم إما بالزج في جهنم وإما بدخول الجنة، وهذا ما تذكره الآيات الآتية:


{وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)} [ق: 50/ 19- 35].
أيها الإنسان، جاءتك في نهاية العمر شدة الموت وغمرته التي تغشى الإنسان، وتبين لك بالموت الحق يقينا، والمراد بقوله: {بِالْحَقِّ} بلقاء اللّه تعالى وفقد الحياة الدنيا، ذلك الموت الذي كنت تميل عنه وتفر منه.
ونفخ في الصور نفخة البعث، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد اللّه به الكفار بعذاب الآخرة.
وأتت كل نفس من البشر، بالبدن والروح، معها ملك يسوقها إلى المحشر، وملك يشهد عليها أو لها بالأعمال من خير أو شر.
ويقال للإنسان الكافر أو كل واحد بر أو فاجر حينئذ في المحشر: لقد كنت في الدنيا غافلا عن هذا المصير أو هذا اليوم، فرفعنا عنك حجاب الغفلة والانهماك في لذائذ الدنيا، فاحتدت بصيرتك أو بصر العين، فصرت ترى ميزانك وغير ذلك من أهوال القيامة، وأدركت ما أنكرته في الدنيا.
ويقدّم القرين السائق للإنسان: وهو الملك الموكل به أو قرينة من ربانية جهنم:
هذا ما عندي مهيأ معدّ لجهنم، أو هذا العذاب الذي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد، أو هذا الذي أحصيته من الأعمال عتيد لدي، وموجب عذابه.
وقال الزهراوي: قرينه: شيطانه، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله: {رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ} هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف. والواقع أن القرين في الآيتين مختلف. فالقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله تعالى: {قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ} إذ المقارنة تكون على أنواع.
ويقول اللّه تعالى للسائق والشهيد: اطرحا في جهنم كل من كفر بالله أو أشرك به شريكا آخر، كثير المنع للخير كالزكاة، معتد ظالم بالأذى والفحش، شاكّ في اللّه وفي أخباره، الذي جعل مع اللّه شريكا إلها آخر، فألقياه في النار ذات العذاب الشديد.
ويحدث حوار بين الكافر وقرينه الشيطان الذي كان معه في الدنيا، فيقول: القرين الشيطان عن الكافر المقارن له، والمتبرئ منه: يا ربنا ما أضللته أو أوقعته في الطغيان، بل كان هو في نفسه ضالا، مؤثرا الباطل، معاندا للحق، فدعوته فاستجاب لي، فهو الذي كان في ضلال بعيد الغور، يستحق معه هذا العقاب.
قال اللّه عز وجل للكافر وقرينه الشيطان: لا تتخاصموا ولا تتجادلوا عندي في موقف الحساب، فإني تقدمت إليكم في الدنيا بوعيدي وإنذاري ولقد قضيت ما أنا قاض، ولا يغير حكمي وقضائي، ولا خلف لوعدي، بل هو كائن لا محالة، ولست بظالم أحدا بغير جرم اقترفه أو ذنب ارتكبه، بعد قيام الحجة.
والعذاب قائم، فاذكر أيها الرسول لقومك حين يقول اللّه لجهنم: هل امتلأت، من الإنس والجن، فتنطق قائلة: هل من زيادة تزيدونني بها؟ غيظا على العصاة. وهذا حقيقة في الراجح، وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى. والنعيم محقق، حيث قربت الجنّة، لأهل التقوى تقريبا غير بعيد، أو في مكان غير بعيد، بل هي بمرأى منهم.
وتقول الملائكة للمنعّمين: هذا النعيم الذي ترونه من الجنة: هو ما وعدتم به في كتب ربكم، وعلى ألسنة رسله المرسلين إليكم، وهذا الثواب لكل رجّاع إلى اللّه تعالى وطاعته بالتوبة عن المعصية وترك الذنب الحافظ لحدود اللّه، ذلك المحافظ على الحدود فلا يقربها: هو من خاف اللّه ولم يكن رآه، وجاء بقلب خاشع مخلص في طاعة اللّه، سليم من أي شبهة أو شك.
ويقال لهم أيضا: ادخلوا الجنة سالمين من العذاب، ومن زوال النعم، ومن كل المخاوف، ذلك هو يوم الخلود الدائم أبدا. لهؤلاء المتقين الموصوفين بما ذكر ما يريدون من الجنة وتشتهيه أنفسهم، ولدينا زيادة من النعم لم تخطر لهم على بال.
إثبات البعث وتهديد منكريه:
أنذر اللّه تعالى منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة، ثم هددهم وأنذرهم بعذاب الدنيا المدمر، وبين الإنذارين تبيان حال المتقين في الجنة، للجمع بين الترغيب والترهيب، والإهلاك عظة وتذكير.
ثم أكد اللّه تعالى دليل إمكان البعث بخلق السماوات والأرض وما بينهما، وأمر رسوله بالصبر على ما يقولون من إنكار البعث، وبتنزيه اللّه عن كل نقص، فقد اقترب يوم البعث، وسمع صوت الداعي إليه، واللّه وحده هو المحيي والمميت، وإليه المصير، وهو سبحانه الأعلم بما يقول المشركون في البعث، وما عليك أيها النبي إلا متابعة مهمتك في الإنذار، والتذكير بالقرآن كلّ من يخاف وعيد اللّه وعقابه، كما تذكر هذه الآيات:

1 | 2